عرضت شاشة إحدى الفضائيات حوارًا بين ممثلي الملل والنحل والأديان والفرق أسمته «حوار بلا أسوار» ولقد استوقفني في هذا الحوار سؤال وجّهه المذيع إلى المتحاورين جميعًا هو: من يدخل الجنة؟ وقد حاول بعض المتحاورين أن يجيب جوابًا عامًا فضفاضًا وحاول البعض الآخر أن يكون أكثر تحديدًا ووضوحًا وصراحة.
قال أحد ممثلي الكنيسة: من جاء بالمحبة لله وللناس دخل الجنة، مهما كانت عقيدته في الإله.
فقال له المذيع: وإن كان ملحدًا لا دين له؟
فقال: وإن كان ملحدًا أو لا دين له، وضرب المثل على ذلك بالزعيم
الهندي المعروف غاندي فقال له المذيع: فلم تبذلون جهدكم في التبشير بالنصرانية إذا كنتم تعتقدون أن من جاء بالمحبة دخل الجنة سواء أكان مسيحيًا أو يهوديًا أو مسلمًا أو حتى من لا دين له؟ فلم يذكر جوابا مقنعًا.
أما الممثل الآخر للكنيسة فكان أكثر صراحة ووضوحًا فقال: من آمن بالمسيح المخلص دخل الجنة، ومن لم يؤمن بألوهية المسيح لم يدخل الجنة.
فقال له: هل عندكم نص في كتابكم يدل على هذا؟ فقال: إن الكنيسة قررت هذا، وما قررته الكنيسة فهو نص محكم.
فقال له المذيع، ولكن الكنيسة من قبل أعطت صكوك الغفران، ومنحت الملوك الحكم بمقتضى الحق الإلهي المقدس، حتى كفر أكثر النصارى بتسلط الكنيسة وفصلوا الدين عن الدولة فيما عرف بعد ذلك بالعلمانية.
فلم يقدم جوابًا شافيًا.
أما أحد المتحاورين من المسلمين فقال: لقد ذكر القرآن عن المسيح عيسى بن مريم أنه لن يدخل الجنة مشرك فقال: وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار [المائدة: 72].
ولم يذكر المحاور صدر الآية ربما استحيى من ممثل الكنيسة أن يلمزه بالكفر، لأن مطلع هذه الآية لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وفيها ردٌ صريح على ممثل الكنيسة الذي زعم أنه لن يدخل الجنة إلا من آمن بألوهية المسيح المخلص، وبيان أن ما يعتقده هؤلاء في المسيح إنما هو كفر صريح لن يدخل صاحبه الجنة أبدًا، بل كل من كفر بالله أو أشرك فمأواه النار، لأن الله عز وجل حرم عليه الجنة وقد حفزني هذا الحوار لأكتبه في هذه القضية.
من يدخل الجنة؟
الذي لا شك فيه أن أتباع كل دين أو ملة أو نحلة يزعمون أنهم أولى بالحق من غيرهم، وأنهم وحدهم المستحقون للجنة، وأن من عداهم فمن أهل النار لكن تبقى دعوى كل منهم مجرد أماني وأحلام كاذبة حتى يقيم الدليل عليها.
وقد قرر القرآن هذه الحقيقة في آيات بينات فقال المولى سبحانه: وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (111) بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (112) وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون [البقرة: 111-311].
فاليهود قوم متعصبون لعنصرهم يزعمون أنهم شعب الله المختار، وأنهم وحدهم أهل الجنة، ويكفرون بالمسيح عيسى بن مريم ويفخرون بتكذيبهم إياه وسعيهم في قتله وصلبه، ويرون أن النصارى ليسوا على شيء من الحق والنصارى في المقابل يرون اليهود أعداء المسيح الذين كذبوه وصلبوه وكفروا به فهم ليسوا على شيء من الحق بحال، وكل فرقة منهم تزعم أنها الأولى والأحق بالجنة، فاليهود قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًا، والنصارى قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيًا.
والمولى سبحانه وتعالى يُسَفِّه أقوالهم ويدحض دعواهم ويتحداهم أن يأتوا بدليل واحد على ما يقولون فيقول تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين فالجنة لا تنال بالأماني الكاذبة والدعاوي الباطلة وإنما يدخلها بفضل الله المؤمنون المتقون بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ولهذا يخاطب المولى تبارك وتعالى المؤمنين أن يقولوا في دعوتهم قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136) فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم
[البقرة: 631-731]
ولكن اليهود والنصارى كما أنكر بعضهم على بعض فقد اتفقوا على جحود ما أنزل الله على خاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم وكفروا به، رغم البشارات التي يحملونها في كتبهم وسعيهم في تحريفها وتبديلها، وحاولوا رد المؤمنين عن إيمانهم ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير [البقرة: 901].
ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون [آل عمران: 96].
قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون [المائدة: 95].
القضية ليست بالدعاوي ولا بالأماني وإنما بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وعدم التفرقة بين رسل الله عز وجل، بل الإيمان بهم جميعًا دون تفرقة بين أحد منهم، والإيمان بأن الله يجازي بالإحسان إحسانًا، وبالإساءة عقوبة وخذلانًا فهو الحكم العدل الحكيم العليم، ولهذا حذر المسلمين من الأماني الكاذبة، فقال: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا (123) ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا (124) ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا [النساء: 321-521].
فليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، ولاشك أن العمل الصالح من الإيمان، فالإيمان عند أهل الحق قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، ولا يدخل الجنة إلا من وفقه الله وهداه للإيمان.
هل الأعمال في مقابل الجنة؟
الجنة هي دار الكرامة ومحل الرحمة، قال المولى تبارك وتعالى للجنة: «أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي» ولا يدخل أحد الجنة بمجرد العمل، بل يدخل المؤمنون الجنة بفضل الله ورحمته، فهو سبحانه الذي هداهم للإيمان ووفقهم للأعمال الصالحة وقبلها منهم، وأدخلهم الجنة برحمته فهو سبحانه المتفضل أولاً وآخرًا له المنة وله الفضل وله الثناء الحسن.
وفي هذا المعنى يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لن يُدخل أحدًا عمله الجنة ـ قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمته، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا، وإن أحب الأعمال أدومها إلى الله عز وجل وإن قل»، وهذه روايات متعددة للخباري جمعتُ بعضها إلى بعض راجع أحاديث 93 ـ 3765 4646 ـ 7646 في الصحيح ولا تتعارض هذه الأحاديث مع قول الله عز وجل تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون [الأعراف: 34].
لأن العمل هذا ليس ثمنًا للجنة وإنما هو سبب للجنة والعمل والجزاء من فضل الله ورحمته، فلولا فضل الله ورحمته ما كان الإيمان وما كانت الهداية وما كان العمل وما كانت الجنة.
ولقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في دخول الجنة بالإيمان والعمل الصالح على ما بينا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أم مات في أرضه التي ولد فيها قالوا: أفلا نبشر الناس؟
قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة فوقه عرش الرحمن منه تفجر أنهار الجنة». [رواه البخاري]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من عمل». [متفق عليه]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من الشرق أو الغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين». [البخاري ح6103]
أمة محمد صلى الله عليه وسلم أكثر أهل الجنة
ومن فضل الله ورحمته أن وفق الله هذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم فجعلها أكثر أهل الجنة كما جعله صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعًا يوم القيامة والأحاديث في ذلك كثيرة منها:
قول النبي صلى الله عليه وسلم عرضت عليَّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط، ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، ورأيت النبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي وهذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب».
[متفق عليه واللفظ لمسلم]
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة». [رواه مسلم]
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول شفيع في الجنة لم يُصدق نبيٌ من الأنبياء ما صُدقت، وإن من الأنبياء نبيا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد». [رواه مسلم]
ويقول الله عز وجل لجبريل: اذهب إلى محمد فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك».
[رواه مسلم]
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة». [متفق عليه]
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون منها من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم». [رواه الترمذي وابن ماجه وسنده صحيح]
أقسام ودرجات للناس في الجنة
الجنة درجات يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري في أفق السماء وأهل الجنة يتفاوتون في الدرجات على حسب ما عندهم من الإيمان والعمل الصالح، ويتفاوتون أيضا في الدخول إلى الجنة بغير حساب، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه يدخل الجنة ـ من أمته سبعون ألفا بغير حساب ولا عذاب، وأكثرهم من الجيل الأول كما قال المولى تبارك وتعالى: والسابقون السابقون (10) أولئك المقربون (11) في جنات النعيم (12) ثلة من الأولين (13) وقليل من الآخرين
[الواقعة: 01-41]
وهم الذين وصفهم ربهم بقوله: «ومنهم سابق بالخيرات».
ويدخل هؤلاء الجنة متماسكون، آخذ بعضهم بعضًا لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر، كما في رواية مسلم عن سهل بن سعد ويأتي بعد هؤلاء أصحاب اليمين المقتصدون، لم يسبقوا غيرهم ولكنهم يلحقونهم في الأجر والخير وهم كثيرون «ثلة من الأولين وثلة من الآخرين» وهؤلاء هم الذين تعرض عليهم الأعمال في الموقف ويحاسبون حسابًا يسيرًا، فيغفر الله لهم الذنوب ويبارك لهم في ثواب أعمالهم.
منهم من يقول الله عز وجل لملائكته: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، فيعرضونها عليه وهو مقر بها مشفق من كبارها، فيقول الله عز وجل لملائكته: اعطوه مكان كل سيئة حسنة، فيقول العبد: ما لي لا أرى ذنوبًا قد ذكرت ها هنا، وذلك من فرحه بفضل الله، ومنهم من يستره ربه عن الخلق، ثم يعرض عليه ذنوبه حتى إذا كاد يذوب حياءً من ربه قال الله عز وجل: إني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيأخذ صحيفة حسناته بيضاء.
ومنهم من يقف عند الميزان فتنشر له سجلات الذنوب حتى إذا أيقن أنه هلك، جاءت بطاقة فيها لا إله إلا الله فطاشت سجلات الذنوب.
ومنهم من يُخدش على الصراط ثم ينجو بفضل الله ورحمته فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز [آل عمران: 581].
ثم يكون بعد هؤلاء قوم مؤمنون أوبقتهم أعمالهم فدخلوا نار جهنم يهذبون فيها وينقون، ثم يأمر الله تعالى بإخراجهم من النار فيقول: أخرجوا من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة.
فإذا دخل أهل الجنة الجنة زال عنهم كل بؤس وشقاء تعرضوا له في الدنيا أو في القبر أو في الوقف، حتى إنه ليؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا فيصبح في الجنة صبغة ويغمس فيها غمسة فيقال له: هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مرَّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب.
وينادي الله على أهل الجنة: يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من العالمين.
فيقول: فإني أعطيكم أفضل من ذلك: «أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدًا».
ويؤتى بالموت على صورة كبش فيذبح بين الجنة والنار ويقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت.
ويتجلى لهم ربهم تبارك وتعالى ويكشف الحجاب ينظرون إلى وجه ذي الجلال والإكرام.
وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة
[القيامة: 22-32]
فاللهم يا ذا الجلال والإكرام أسألك بوجهك الكريم أن تدخلنا الجنة بغير سابقة عذاب فنعوذ بوجهك أن نكون من أصحاب النار... اللهم آمين.
قال أحد ممثلي الكنيسة: من جاء بالمحبة لله وللناس دخل الجنة، مهما كانت عقيدته في الإله.
فقال له المذيع: وإن كان ملحدًا لا دين له؟
فقال: وإن كان ملحدًا أو لا دين له، وضرب المثل على ذلك بالزعيم
الهندي المعروف غاندي فقال له المذيع: فلم تبذلون جهدكم في التبشير بالنصرانية إذا كنتم تعتقدون أن من جاء بالمحبة دخل الجنة سواء أكان مسيحيًا أو يهوديًا أو مسلمًا أو حتى من لا دين له؟ فلم يذكر جوابا مقنعًا.
أما الممثل الآخر للكنيسة فكان أكثر صراحة ووضوحًا فقال: من آمن بالمسيح المخلص دخل الجنة، ومن لم يؤمن بألوهية المسيح لم يدخل الجنة.
فقال له: هل عندكم نص في كتابكم يدل على هذا؟ فقال: إن الكنيسة قررت هذا، وما قررته الكنيسة فهو نص محكم.
فقال له المذيع، ولكن الكنيسة من قبل أعطت صكوك الغفران، ومنحت الملوك الحكم بمقتضى الحق الإلهي المقدس، حتى كفر أكثر النصارى بتسلط الكنيسة وفصلوا الدين عن الدولة فيما عرف بعد ذلك بالعلمانية.
فلم يقدم جوابًا شافيًا.
أما أحد المتحاورين من المسلمين فقال: لقد ذكر القرآن عن المسيح عيسى بن مريم أنه لن يدخل الجنة مشرك فقال: وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار [المائدة: 72].
ولم يذكر المحاور صدر الآية ربما استحيى من ممثل الكنيسة أن يلمزه بالكفر، لأن مطلع هذه الآية لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وفيها ردٌ صريح على ممثل الكنيسة الذي زعم أنه لن يدخل الجنة إلا من آمن بألوهية المسيح المخلص، وبيان أن ما يعتقده هؤلاء في المسيح إنما هو كفر صريح لن يدخل صاحبه الجنة أبدًا، بل كل من كفر بالله أو أشرك فمأواه النار، لأن الله عز وجل حرم عليه الجنة وقد حفزني هذا الحوار لأكتبه في هذه القضية.
من يدخل الجنة؟
الذي لا شك فيه أن أتباع كل دين أو ملة أو نحلة يزعمون أنهم أولى بالحق من غيرهم، وأنهم وحدهم المستحقون للجنة، وأن من عداهم فمن أهل النار لكن تبقى دعوى كل منهم مجرد أماني وأحلام كاذبة حتى يقيم الدليل عليها.
وقد قرر القرآن هذه الحقيقة في آيات بينات فقال المولى سبحانه: وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (111) بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (112) وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون [البقرة: 111-311].
فاليهود قوم متعصبون لعنصرهم يزعمون أنهم شعب الله المختار، وأنهم وحدهم أهل الجنة، ويكفرون بالمسيح عيسى بن مريم ويفخرون بتكذيبهم إياه وسعيهم في قتله وصلبه، ويرون أن النصارى ليسوا على شيء من الحق والنصارى في المقابل يرون اليهود أعداء المسيح الذين كذبوه وصلبوه وكفروا به فهم ليسوا على شيء من الحق بحال، وكل فرقة منهم تزعم أنها الأولى والأحق بالجنة، فاليهود قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًا، والنصارى قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيًا.
والمولى سبحانه وتعالى يُسَفِّه أقوالهم ويدحض دعواهم ويتحداهم أن يأتوا بدليل واحد على ما يقولون فيقول تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين فالجنة لا تنال بالأماني الكاذبة والدعاوي الباطلة وإنما يدخلها بفضل الله المؤمنون المتقون بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ولهذا يخاطب المولى تبارك وتعالى المؤمنين أن يقولوا في دعوتهم قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136) فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم
[البقرة: 631-731]
ولكن اليهود والنصارى كما أنكر بعضهم على بعض فقد اتفقوا على جحود ما أنزل الله على خاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم وكفروا به، رغم البشارات التي يحملونها في كتبهم وسعيهم في تحريفها وتبديلها، وحاولوا رد المؤمنين عن إيمانهم ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير [البقرة: 901].
ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون [آل عمران: 96].
قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون [المائدة: 95].
القضية ليست بالدعاوي ولا بالأماني وإنما بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وعدم التفرقة بين رسل الله عز وجل، بل الإيمان بهم جميعًا دون تفرقة بين أحد منهم، والإيمان بأن الله يجازي بالإحسان إحسانًا، وبالإساءة عقوبة وخذلانًا فهو الحكم العدل الحكيم العليم، ولهذا حذر المسلمين من الأماني الكاذبة، فقال: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا (123) ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا (124) ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا [النساء: 321-521].
فليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، ولاشك أن العمل الصالح من الإيمان، فالإيمان عند أهل الحق قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، ولا يدخل الجنة إلا من وفقه الله وهداه للإيمان.
هل الأعمال في مقابل الجنة؟
الجنة هي دار الكرامة ومحل الرحمة، قال المولى تبارك وتعالى للجنة: «أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي» ولا يدخل أحد الجنة بمجرد العمل، بل يدخل المؤمنون الجنة بفضل الله ورحمته، فهو سبحانه الذي هداهم للإيمان ووفقهم للأعمال الصالحة وقبلها منهم، وأدخلهم الجنة برحمته فهو سبحانه المتفضل أولاً وآخرًا له المنة وله الفضل وله الثناء الحسن.
وفي هذا المعنى يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لن يُدخل أحدًا عمله الجنة ـ قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمته، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا، وإن أحب الأعمال أدومها إلى الله عز وجل وإن قل»، وهذه روايات متعددة للخباري جمعتُ بعضها إلى بعض راجع أحاديث 93 ـ 3765 4646 ـ 7646 في الصحيح ولا تتعارض هذه الأحاديث مع قول الله عز وجل تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون [الأعراف: 34].
لأن العمل هذا ليس ثمنًا للجنة وإنما هو سبب للجنة والعمل والجزاء من فضل الله ورحمته، فلولا فضل الله ورحمته ما كان الإيمان وما كانت الهداية وما كان العمل وما كانت الجنة.
ولقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في دخول الجنة بالإيمان والعمل الصالح على ما بينا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أم مات في أرضه التي ولد فيها قالوا: أفلا نبشر الناس؟
قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة فوقه عرش الرحمن منه تفجر أنهار الجنة». [رواه البخاري]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من عمل». [متفق عليه]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من الشرق أو الغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين». [البخاري ح6103]
أمة محمد صلى الله عليه وسلم أكثر أهل الجنة
ومن فضل الله ورحمته أن وفق الله هذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم فجعلها أكثر أهل الجنة كما جعله صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعًا يوم القيامة والأحاديث في ذلك كثيرة منها:
قول النبي صلى الله عليه وسلم عرضت عليَّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط، ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، ورأيت النبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي وهذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب».
[متفق عليه واللفظ لمسلم]
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة». [رواه مسلم]
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول شفيع في الجنة لم يُصدق نبيٌ من الأنبياء ما صُدقت، وإن من الأنبياء نبيا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد». [رواه مسلم]
ويقول الله عز وجل لجبريل: اذهب إلى محمد فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك».
[رواه مسلم]
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة». [متفق عليه]
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون منها من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم». [رواه الترمذي وابن ماجه وسنده صحيح]
أقسام ودرجات للناس في الجنة
الجنة درجات يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري في أفق السماء وأهل الجنة يتفاوتون في الدرجات على حسب ما عندهم من الإيمان والعمل الصالح، ويتفاوتون أيضا في الدخول إلى الجنة بغير حساب، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه يدخل الجنة ـ من أمته سبعون ألفا بغير حساب ولا عذاب، وأكثرهم من الجيل الأول كما قال المولى تبارك وتعالى: والسابقون السابقون (10) أولئك المقربون (11) في جنات النعيم (12) ثلة من الأولين (13) وقليل من الآخرين
[الواقعة: 01-41]
وهم الذين وصفهم ربهم بقوله: «ومنهم سابق بالخيرات».
ويدخل هؤلاء الجنة متماسكون، آخذ بعضهم بعضًا لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر، كما في رواية مسلم عن سهل بن سعد ويأتي بعد هؤلاء أصحاب اليمين المقتصدون، لم يسبقوا غيرهم ولكنهم يلحقونهم في الأجر والخير وهم كثيرون «ثلة من الأولين وثلة من الآخرين» وهؤلاء هم الذين تعرض عليهم الأعمال في الموقف ويحاسبون حسابًا يسيرًا، فيغفر الله لهم الذنوب ويبارك لهم في ثواب أعمالهم.
منهم من يقول الله عز وجل لملائكته: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، فيعرضونها عليه وهو مقر بها مشفق من كبارها، فيقول الله عز وجل لملائكته: اعطوه مكان كل سيئة حسنة، فيقول العبد: ما لي لا أرى ذنوبًا قد ذكرت ها هنا، وذلك من فرحه بفضل الله، ومنهم من يستره ربه عن الخلق، ثم يعرض عليه ذنوبه حتى إذا كاد يذوب حياءً من ربه قال الله عز وجل: إني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيأخذ صحيفة حسناته بيضاء.
ومنهم من يقف عند الميزان فتنشر له سجلات الذنوب حتى إذا أيقن أنه هلك، جاءت بطاقة فيها لا إله إلا الله فطاشت سجلات الذنوب.
ومنهم من يُخدش على الصراط ثم ينجو بفضل الله ورحمته فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز [آل عمران: 581].
ثم يكون بعد هؤلاء قوم مؤمنون أوبقتهم أعمالهم فدخلوا نار جهنم يهذبون فيها وينقون، ثم يأمر الله تعالى بإخراجهم من النار فيقول: أخرجوا من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة.
فإذا دخل أهل الجنة الجنة زال عنهم كل بؤس وشقاء تعرضوا له في الدنيا أو في القبر أو في الوقف، حتى إنه ليؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا فيصبح في الجنة صبغة ويغمس فيها غمسة فيقال له: هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مرَّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب.
وينادي الله على أهل الجنة: يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من العالمين.
فيقول: فإني أعطيكم أفضل من ذلك: «أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدًا».
ويؤتى بالموت على صورة كبش فيذبح بين الجنة والنار ويقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت.
ويتجلى لهم ربهم تبارك وتعالى ويكشف الحجاب ينظرون إلى وجه ذي الجلال والإكرام.
وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة
[القيامة: 22-32]
فاللهم يا ذا الجلال والإكرام أسألك بوجهك الكريم أن تدخلنا الجنة بغير سابقة عذاب فنعوذ بوجهك أن نكون من أصحاب النار... اللهم آمين.